– «العذراء الممتلئة بالذهب».. حكاية الأيقونة التى يغرقها الزوار ذهبا فى كنيسة المعادى
من حارة زويلة التى تركت فيها العائلة المقدسة بئرا جديدة، سار الركب المقدس حتى بلغ مصر القديمة، وقرب حصن بابليون الأثرى نزلت العذراء عن حمارها، ووضعت طفلها فى مغارة كانت معدة سلفا لاستقبال الزوار الغرباء فى تلك البقعة المكتظة باليهود قرب المجمع اليهودى الذى بنى فى القرن الثانى قبل الميلاد.
ستعيش العائلة فى هذه المغارة آمنة ثلاثة أشهر كاملة، بعيدة عن أعين جند الملك «هيرودس»، ثم تضطر لتغيير خطتها وتغادرها إلى المعادى، مرفأ السفن المبحرة جنوبا صوب جبال الصعيد.
يقف بنا التاكسى عند بوابة حديدية قرب منطقة مجمع الأديان الأثرية، نترك حقائبنا على جهاز الفحص الأمنى، ونمر وسط الكثير من الكنائس الأثرية والأديرة، بينما صوت الأذان قد انطلق من مسجد عمرو بن العاص المجاور، والزوار يطلعون ويخرجون من كل اتجاه، سياح عرب، هنود وآسيويون، وباعة ينادون على بضائعهم، ومعلمون يصطحبون تلاميذهم فى رحلة.
نسأل عن كنيسة «أبوسرجة»، يدلنا الشرطى على سلم حجرى ينفتح على نفق صغير يؤدى بنا إلى زقاق صغير يعرض فيه الباعة صورا سياحية وتذكارات، ثم نرى الكنيسة على اليمين، تفوح منها روائح البخور لتعطر الممرات المؤدية إليها.
كنيسة القديسين سرجيوس وواخس هو الاسم الأصلى للكنيسة، إلا أن الفتح العربى الإسلامى قد أتى بصبغته على اسمها، فاتخذت اسما عربيا وصار سرجيوس «أبوسرجة» على طريقة الكنية التى ينادى بها العرب رجالهم.
تدخل بقدميك إلى عالم «أبوسرجة»، ستخلع نعليك لاحقا حين تقترب من الموضع الذى داسه المسيح بقدميه الصغيرتين فآمنه من خوف، وتبارك إلى الأبد، على يمين الكنيسة تستقبلك أيقونة حياة وآلام السيد المسيح التى تعود إلى القرن الثامن عشر، وفقا لما تقوله «نانسى» خادمة الكنيسة دارسة الآثار.
العذراء تستقبل طفلها فى مزود للبقر، تصوره الأيقونة بدقة، طفلا من غير أب، هدايا المجوس تحاصرها، والملاك فوقها يبشرها بميلاد ملك الملوك، تترك الأيقونة وتغوص فى الكنيسة أكثر، على الأرض لوح زجاجى يكشف عن مغطس سفلى، لجأ إليه الأقباط فى عصر الحاكم بأمر الله، الرجل المستبد الذى لم يراع فى جبروته دينا ولا عرقا، فى زمنه منع الأقباط من الاحتفال بعيد الغطاس فى النيل، اضطروا لحفر المغطس، يملئونه بالماء ويغطسون فيه حفاظا على الطقس وهربا من بطش الحاكم.
على يسار مدخل الكنيسة، معمودية حجرية وجدت مدفونة داخل طبقات من الحجر، إلا أن جهود الترميم قد أسفرت عن اكتشافها، إناء من الحجر يمنح فيه الأقباط أبناءهم سر المعمودية، فينتسبون للمسيحية.
أمام عمود أثرى، أجساد قديسين، يحب الأقباط أن يحفظوا رفات من استشهدوا لأجل الإيمان، هنا جسد الشهيد بشونة، أحد رهبان دير أبى مقار، استشهد فى القرن الثانى عشر، فوضعوه جوار أجساد الشهيدين سرجوس وواخس، صاحبى الكنيسة وشفيعيها.
فى منتصف الكنيسة، عمود حجرى تقول نانسى، إنه نزف دما عام 1967 قبل شهور من هزيمة مصر فى حربها مع إسرائيل، وصلى عليه البابا كيرلس السادس، الذى قال إن ألم الوطن من ألم الكنيسة، والعمود نزف كالجنود على الجبهة، وكأنه يتنبأ بذلك.
تسير فى الكنيسة أكثر، تبلغ ممرا ضيقا يؤدى بك عبر سلالم إلى الأسفل تنزل بضع درجات، تجد نفسك فى كنيسة المغارة، الموضع المقدس الذى باركه المسيح وسكنته عائلته المقدسة، فى المغارة ترى حجرا قيل إن المسيح قد داسه فباركه، تضاء المغارة بأضواء خافتة، يمنع فيها التصوير أو استخدام الفلاش، زوار من الهند يطلبون بركة المسيح، تسمع اسم العذراء بعدة لغات، تقول زائرة يا مريم يا أم النور، تناديها أخرى فيرجين مارى، وثالث يلقبها بمادونا، تتعدد الأسماء والعذراء واحدة، يقصدها الناس من شرق وغرب، لا تفرق بين أحد من زوارها، تفرش رحمتها على الجميع.
تزدحم الكنيسة بالأيقونات الأثرية، يعود معظمها للقرن الثامن عشر الميلادى، تلاميذ المسيح يطلون من كل الصور، يبشرون برسالته فى الشرق وفى الغرب ويذوقون العذاب لأجل حمل دعوته، داخل قبة علوية من الكنيسة يطل المسيح على تلاميذه وأتباعه ومحبيه، من رسم على جلد غزال قالت «نانسى» إنه يعود للقرن الثامن عشر الميلادى.
تحتفظ الكنيسة ببئر أثرى شربت منه العائلة المقدسة عند اختبائها هنا، ركدت فيه المياه فغطتها الطحالب الخضراء، واضطر الكهنة لتركه هكذا دون تجديد مياهه، آلات الرفع من أسفل إلى أعلى قد تودى بالمعمار الأثرى القديم للكنيسة، غير أن البئر أصر على أن يظل شاهدا على تلك الرحلة التاريخية حتى وإن لم يعد يرتو من مائه أحد.
فى مكتبه الملحق بالكنيسة، يستقبل القمص أنجيلوس جرجس، كاهن الكنيسة، زوارا وأثريين حتى إنه هو نفسه قد ألف كتابا عن تاريخ الكنيسة التى يخدم فيها منذ سنوات، يقول لنا إن كنيتسه هى المحطة الوحيدة التى عبرت فيها العائلة المقدسة ذهابا وإيابا، وصارت كنيسة منذ العصر الرسولى، حيث تباركت بزيارة القديسين مارمرقس وبطرس اللذين نزلا المغارة، وحين جاءت الملكة هيلانة قررت تأسيس كنيسة تعلو كنيسة المغارة.
يؤكد القمص أنجيلوس أن الكنيسة تبذل جهودا كبيرة مع مسؤولى وزارة الآثار، من أجل الإعداد لمسار رحلة العائلة المقدسة الذى اعتمده الفاتيكان مؤخرا، حتى إنه يتواصل مع عدة جهات أهمها وزارة السياحة، ويجرى تنسيقا رفيع المستوى بين كافة الأطراف لإبراز تلك الكنيسة ذات الأهمية التاريخية.
نغادر مجمع الأديان، وننطلق إلى المحطة التالية «كنيسة العذراء بالمعادى»، المرفأ الذى انطلق منه الركب المقدس إلى الصعيد، يقطع السائق طريق الكورنيش على نيل القاهرة الذى حمل بين دفتيه حكايات غزاة وأبطال، حضارات قامت وأخرى اندثرت وهو صامد، حتى جاءته العذراء وعائلتها المقدسة واستقرت أمامه، وبُنيت لها تلك الكنيسة المهيبة التى تحمل اسمها حتى اليوم.
يقف السائق أمام الكنيسة، وقبل أن ننزل تأتى الشرطة المتمركزة أمامها لتسألنا عن وجهتنا، نقول إن القس أسطفانوس صبحى قد أذن لنا بالحضور، نمر بالبوابة الإلكترونية، ويتحقق الأمن من هويتنا، ويأذن لنا بالدخول، القس أسطفانوس يخدم خارج الكنيسة وسيأتى بعد ساعات من الآن، ولكنه كلف «إدوارد وديع» الشماس بمهمة اصطحابنا داخلها.
يأخذنا إدوارد الذى خلع للتو ملابس الخدمة، تونية الشمامسة البيضاء المطرزة بالذهبى، كان يرتديها فى صلاة قداس باكر كما اعتاد أن يفعل فى أيام الجمعة والآحاد، يحتار إدوارد فى الوصف الذى سيطلقه على الكنيسة، فقد كانت ديرا من قبل يلقب بدير العذراء العدوية ثم تحول إلى كنيسة بعدما صارت منطقة المعادى قريبة من العمران بالشكل الذى يحول دون قيام حياة رهبانية فيها تتطلب الوحدة والانعزال فى الصحارى.
«مكثت العائلة المقدسة فى كنيستنا من ثلاثة إلى أربعة أيام، أثناء رحلتها للصعيد»، يؤكد إدوارد، وينقل رواية أقل تأكيدا تشير إلى أن «الموضع الذى يمر فيه النيل أمام الكنيسة قد شهد العثور على النبى موسى حين كان طفلا ألقته أمه فى اليم خوفا من بطش فرعون».
خلف إدوارد، هيكل الكنيسة الأثرى، هيكل خشبى مزين بالصلبان، إلا أن اللافت للنظر فيه هو الشباكان الصغيران، عن اليمين واليسار، يقول إدوارد إن الكنيسة كانت ديرا يعيش فيه رهبان يخشون التعرض للاضطهاد قديماً، فكانوا يراقبون الأجواء من خلال هذا الشباك الصغير، فإذا رأوا هجوما من البربر تمكن الكاهن من الهرب بالذبيحة المقدسة، والذبيحة هى جسد المسيح، أى القربان، ودمه، أى الخمر، وهى أقدس ما لدى الأقباط.
جوار هيكل الكنيسة، أيقونة للسيدة العذراء، ممتلئة بالذهب، تراها ترتدى سلسلة ذهبية وترتدى صليبا، وقرطا ذهبيا معلقا جوار أذنها، والكثير من الذهب فى قاعدة البرواز، يقول إدوارد، إن الذهب تلبية لنذور يقطعها المحبون على أنفسهم إذا كان لديهم عند العذراء طلبة، الذهب دائما موجود ولا ينقطع أبدا، فالعذراء لا تخذل من طلبها ولا ترده خائبا.
ترتبط الكنيسة بالكثير من الحكايات المدهشة، إلا أن أغرب تلك القصص ما يتداوله الناس ويؤكده إدوارد عن العثور على إنجيل عائم على صفحة الماء أمام الكنيسة، يروى إدوارد أنه فى الثانى عشر من مارس من العام 1976، عثر سمعان العامل بالكنيسة على الإنجيل العائم، فاستدعى القمص بشارة إبراهيم، كاهن الكنيسة الذى كان منشغلا بصلاة القداس الإلهى، وبعد انتهاء الصلاة ذهب مع الشمامسة ليجد الإنجيل تتقاذفه أمواج النيل الهادرة ولكنه مفتوح على الآية «مبارك شعب مصر»، رغم أن قانون الطفو يجعل الورق يغرق ولا يطفو، ومازالت الكنيسة تحتفظ بهذا الإنجيل فى صندوق من الزجاج الشفاف حتى الآن.
فى ساحة الكنيسة، هيكل آخر ينتصب تعلوه قبة موضوعة فوق عمدان من الخشب، وأمامها مقاعد الكنيسة الخشبية، وأسفلها باب حديدى يصل بك إلى السلالم التى عبرت منها العائلة المقدسة إلى النيل، لتـأخذ مركبها إلى الصعيد، بينما يحرص كهنة الكنيسة على الصلاة فى الخارج فى هذا الموضع المقدس أيضا.
عن اليمين كانت عائلة كاملة قد أتت لنيل بركة المزار المقدس، وبدأ أفرادها يتسابقون للولوج إلى مزار العذراء بالكنيسة، وحين يبلغونه يبدأون فى الصلاة على الفور، أجساد القديسين فى أنابيبها المعدنية تحيط المزار كله، وفى المنتصف أيقونة العذراء مضاءة بلهب الشموع وضوء أم النور أقوى.
تهمس الأم إلى أيقونة العذراء المعلقة على الحائط وكأنها تودع سرها فى أذن أم المسيح، التى ستلبى طلبها دون تردد، عن يمينها وقف رب الأسرة يشعل شمعة لأم النور، بينما كان نجلهما الشاب يناديهم لتلاوة تمجيد العذراء المعلق فى برواز خشبى على الحائط، ثم وقفوا جميعا فى خشوع وانضم إليهم زوار آخرون وأنشدوا «السلام لك يا مريم يا زهرة فى البستان، السلام لك يا مريم يا عروسة للديان» حتى إذا انتهوا من التمجيد بالعربية ألحقوه بلحن قبطى، ثم غادروا المزار إلى باقى الكنيسة، يواصلون فيها الصلاة والتضرع.
قبل أن نغادر الكنيسة، يلوح من بعيد طيف مركب شراعى صغير، تقوده سيدة مع ابنها الصغير، لم تكن تتحضر للذهاب للصعيد كما فعلت العذراء، ولكنها جاءت من الضفة الأخرى تبحث عن رزق لها على كورنيش المعادى الفخم، بينما كنا نفكر فى مواصلة الرحلة جنوبا إلى المنيا، حيث المحطة التالية، دون أن نفكر فى ركوب النيل اقتداء بالعائلة المقدسة فلم يكن من بين وسائل المواصلات المطروحة.